مقال أكثر من رائع للكاتب والصحفي أمجد ناصر
الرجاء زيارة صفحة الكاتب للمزيد من المعلومات ..رابط الصفحه في اخر المقال..شكرا لكم
أمجد ناصر - حتى بلوغي سنَّ المراهقة لم أعرف أحداً يقتني كاميرا. هذا يعني في مطلع سبعينات القرن الماضي. كان هناك، بالتأكيد، من يمتلكون كاميرات شخصية ولكن، ليس في محيطي. فالتصوير كان يتمُّ في الأستوديوهات، أو أمام المصورين الجوالين )بكاميراتهم الشمسية ذوات القوائم الثلاثية الطويلة التي تبدو جنادبَ فضائية،( ويُقْدم عليه الأهلون لأسباب رسمية محدودة للغاية (جواز سفر، بطاقة تعريف وظيفية وما شابه).عدا ذلك لا أحد «يتصوَّر» من أجل أن «يتصوَّر». ثمة أسباب ملموسة جداً تحول دونه. فقد كان على أناس محيطي أن يتدبروا أمر عيشهم قبل أن يخطوا خطوة واحدة صوب ما لا يمت إلى البقاء الصرف بصلة. هذا يعني: لا تصوير، لا نزهات، لا ثياب زائدة عن الحاجة. ولم تكن عائلتي بعيدة عن هذا الوضع الذي يرتع في درجة عيشٍ قريبةٍ من الصفر. لعل هذا يفسِّر غياب صور عائلية مبكرة لنا. فعندما نقلِّب، نحن الأبناء الأكبر للعائلة، ألبوماتنا، لا نجد صوراً لسني حياتنا الأولى. ناهيكم، بالطبع، عن وجود صورة مبكِّرة تجمع بين الأب والأم.لم تظهر أمي في ألبومات العائلة إلا بعدما تجاوزت الأربعين من عمرها. للأمر، هنا، سبب اجتماعي، وربما ديني. فلم يكن تصوير النساء مستحبَّاً. حتى في جوازات السفر القديمة كانت الخانة المخصَّصة للزوجة فارغة. واضح أن الحكومة كانت توافق على تغييبٍ كهذا رغم إخلاله بخانة وُضعت، خصيصاً، للزوجة. لكن أمي التي لم تجمعني بها صورة مبكِّرة كانت تترك أثراً. ثمة شيء يشبه الطرس يبقى في الصورة. يمكنني أن أرى ظلَّ يدها وهي تسند أخي الأصغر من وراء ستارة الأستوديو!***في أول صورة لي كانت عائلتي مكوَّنة من ثلاثة أبناء. كان وضعنا المعيشي محتملاً على ما يبدو كي يقْدم والدي على ترف كهذا. ثيابنا التي تظهر في الصورة تؤكد ذلك. لكن بطن أمي الخصيب كان يطرح كل عام، تقريباً، ثمرة جديدة. هكذا لم تتكرر تلك الصورة التي تجمعني بأبي وأخوَيّ الأصغر. ستمرُّ نحو ست سنين قبل أن تظهر لنا صورة أخرى في الألبوم، وستعكس، الصورة الثانية، أحوالنا المعيشية تماماً: شُعورٌ حليقة، ثياب «مقيَّفة» (معادٌ تكييفها لملاءمة مهمتها الجديدة)، كنزات (واضحٌ أن الصورة التُقطت في فصل الشتاء) ثخينة، قمصان (تحت الكنزات) من القماش الذي تُصنع منه البيجامات. تقريباً، لا أزرار في فتحات سراويلينا.لا تُظهر الصورة ما هو دون ذلك. ماذا عن الأحذية مثلاً؟ الصورة لا تقول شيئاً، لكن الذاكرة تعيد لي صورة حذاء واحد لكل الفصول في تلك الأيام. حذاء للمدرسة فقط. ما عدا ذلك أقدامنا حرة، طليقة في الشوراع الترابية. أقدام صلدة، عنيدة، تمخر التراب والحصى والطين ومجاري الوديان ذات المياه الضحلة شتاء، الجافة، حتى التشقّق، صيفاً.ففي تلك الفترة التي التُقطت فيها الصورة الثانية، أصبحت عائلتي مكوَّنة من ثلاثة إخوة وأختين، نعيش في بيت بغرفة واحدة ومطبخ وحمام ننزل إليه بدرج. لم يكن راتب أبي يتجاوز ثلاثين ديناراً أردنياً، وكان يمكن لهذا الراتب المتواضع أن يكفي عائلته المتزايدة باطّراد، ولكن والدي، بوصفه الابن الأكبر لذويه، ظل مسؤولاً عن حياة أبويه وإخوته. فكانت جدتي تأتي، في نهاية كل شهر، لتقتطع نصيبها المعلوم من هذا الراتب، وتترك لأمي ما تظن أنه يكفي لإقامة أود عائلتها الفرعية. كان ذلك نوعاً من الطقس العائلي المقدس لم يَلْقَ احتجاجا، قط، من والدتي التي كانت لها (كما سأصفها بعد رحيلها في إحدى قصائدي) يدٌ يَخْضَرُّ لها التراب، فتدبُّ في تلك الدنانير القليلة المتبقية في حزامها الصوفي، طاقة سحرية تمكّنها من تجنيب عائلتها «الفرعية» مغبَّة العري والجوع.***أتذكَّر، بقوة، ذلك الحدث البهيج عندما اشترى لي أهلي ثياباً جديدة مكلفة للعيد. البنطال الصوفي المقلَّم بخط رفيع «فَصَّلوه» عند الخياط الذي ظل «يفصّل» ثيابنا، بين حين وآخر، كأنه خياط عائلي (!)، أما الكنزة الصوفية والقميص الأبيض والصندل الجلدي فقد اشتروها من «سوق الحجاوي» الذي كان يضم، آنذاك، أرقى محال مدينة الزرقاء الأردنية.وقد تم «تخليد» هذا الحدث السعيد في صورة عائلية ضمتني مع أبي وأخويّ الأصغر: عبد الباسط ببلوزة قطنية مخطَّطة وشورت أبيض وحذاء كتاني، وأحمد الذي يغطس تحت قبعة بيضاء وعلى صدره مريلة مشغولة باليد، فيما عيناه تحدقان في دهشة بالمصور. لا أتذكر والدي إلا في الثياب العسكرية. لكنه يبدو، عندما يرتدي الثياب المدنية، شخصاً آخر أكثر تحرراً وأناقة بوجهه الأسمر وعينيه الواسعتين قليلاً، والهدوء الظاهري الذي يطبع ملامحه.في تلك الصورة العائلية النادرة كان والدي يرتدي بنطالاً من الصوف وقميصاً أبيض مفتوحاً قليلاً عند الصدر وحطة بيضاء وعقالاً. كل شيء فيه مَدَني سوى الحطة والعقال اللذين ظل يتمسك بهما كرابط لا يريد له فكاكاً، بأصوله البدوية.. وعندما أحيل الى التقاعد وهو في الخامسة والأربعين من عمره، تحرر نهائياً من الثياب العسكرية والمدنية، وعاد إلى ثيابه البدوية التي كان يرتديها في حداثته.هذه هي الصورة الأولى لنا مع أبي. بل هذه أول صورة تُلتقط لي على الإطلاق. صورة لمناسبة العيد! لكن الأعياد تتكرر كل سنة. لا بدَّ أن هناك مناسبات أخرى أهم أيضاً: زواج عم، ابن عم، خال، قريب من الدرجة الأولى. هناك نهاية العام الدراسي. عيد الجلوس الملكي. هذه كلها مناسبات وذرائع لصور، ولكن لا صور، في ألبومنا العائلي، لمناسبتها. لن تتكرر هذه الصورة النادرة التي التُقطت في «أستوديو زكي أبو ليلى»، الواقع في أسفل «عمارة الصويص» في مدينة الزرقاء حيث كنا نقيم، حتى وقت طويل.سيكون على التكنولوجيا أن تتطور. سيكون على مصنّعي الكاميرات أن يدخلوا في تنافس (دخول اليابان، تحديداً، على هذه السوق) كي يتوسع انتشار الكاميرات الشخصية، وسيصبح التصوير أقلَّ ترفاً من قبل. سأنتظر إلى سنّ المراهقة كي تَظهر لي صورة جديدة في الألبوم العائلي. سيكون إخواني وأخواتي الأصغر أفضل حظاً منا نحن الخمسة الأُوَل من الأبناء والبنات. فلهؤلاء سلسلة منتظمة من الصور في ألبوم العائلة، بعضها في «أستوديو زكي أبو ليلى»، وبعضها الآخر بكاميرات شخصية لأقارب أو جيران.اختفى قسم من هذه الصور مع تنقل العائلة من مكان الى آخر، لكن «أستوديو زكي أبو ليلى» ظل موجوداً بعد ذلك بسنين طويلة، وسيقوم أخي عبد الباسط، الذي سيسلك طريق والدي وجدّي في العسكرية، باستنساخ بعضها من النيجاتيف المحفوظ جيداً في ذلك الأستوديو الزرقاوي الشهير. | المصدر الصفحه الجديده للكاتب
https://www.facebook.com/pages/%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1/694193153956955